وكان برج بابل في لبنان…

كتب د جيرار ديب:

 

برج بابل، بناء يعتقد أنه بني في مدينة بابل في بلاد ما بين النهرين (العراق حاليًا). وقد تحدث عن البرج أغلب المؤرخين القدماء، وكذلك ذُكر في التوراة، فقد جاء في سفر التكوين (الفصل 11) أنّ بناء برج بابل يعزى إلى سلالة النبي نوح. وكان يدور في خلد بنائيه أن يوصلوه إلى السماء، ولكن الإله السرمدي فرّق الألسن (أي بلبلها) بحسب السفر ليمنعهم من تحقيق أمنيتهم وشتّتهم في مغارب الأرض ومشارقها.

من يشاهد الهرج والمرج الذي يعيشه اللبناني اليوم في تناقضاته حول تحديد المفاهيم ومعالجة القضايا، من يستمع إلى الصيحات غير الموحدة التي تعلو في سماء هذا البلد، من يلمس انتمائية الطوائف إلى الخارج وتقاتلها داخليًا، يتبادر إلى ذهنه السؤال التالي: هل أخطأ كاتبو التاريخ في تحديد موقع هذا البرج؟ ألم يشيّد برج بابل حقًا في لبنان وليس في بلاد الرافدين؟ أليست حفلة الجنون هذه التي يعيشها اللبناني اليوم هي التي تحدّث عنها التوراة منذ آلاف السنين؟

بنّاؤو هذا الوطن لا يتحدّثون لغة مشتركة، بل لغات مختلفة تعيق فهم بعضهم على بعض؛ من اللغة العربية الأم إلى الفارسية إلى الفرنسية إلى التركية، والبعض منهم يجيد الأميركية وآخرون ضليعون بالروسية ويتعلّمون الصينية. إنها لغات المسكونة على ألسنة اللبنانيين؛ صحيح أنّ لبنان على حدّ قول البابا الراحل جان بول “رسالة”، ولكن تُقرأ بلغات مختلفة.

تشهد الساحة اللبنانية تشتّتًا هو أقرب إلى اللاتلاقي بين الأفرقاء المكونين للفسيفساء التي لا تجتمع كي نرى صورتها الأساسية. فناهيك عن أزمات هذا البلد الإقتصادية والمالية، وفرض العقوبات الغربية والمقاطعة العربية، وانفجار مرفأه الحيوي وما خلّفه من كوارث إنسانية وصحية وبيئية واقتصادية، ورزحه تحت عبء النزوح السوري، نراه يعاني تشتّت الأفكار والآراء، لدرجة باتت الفيدرالية والتقسيم مطلبًا عند الكثيرين.

كما كان أهل بابل بعد بلبلة الألسن، هكذا الحال في لبنان، فكلّ يغني على ليلاه دون أن يسمع الآخر. فعدم المقدرة على تشكيل الحكومة يعود إلى فقدان الحوار والتواصل بين رئيس الجمهورية ميشال عون الذي يعتبر أنه شريك في عملية التشكيل، والرئيس المكلّف سعد الحريري الذي يرى بأنّ الدستور أعطى حقّ التشكيل وما على الرئيس إلا إبداء الملاحظات والتوقيع. فعلى المواد الدستورية اختلفوا في التفسير، وعلى توزيع الحصص تناحروا، وتخاصموا، وتصارعوا لدرجة أنهم لم يستطيعوا تشكيل حكومة بعد أكثر من تسعة أشهر على استقالة الرئيس حسان دياب، والآتي أعظم.

بين الشرق والغرب اختلفوا؛ فبين حزب الله الذي يريد جرّ لبنان في لعبة المحاور، ووضعه في المحور الشرقي، وجعله امتدادًا طبيعيًا للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وموقف البطريرك بشارة الراعي المنادي بالحياد الإيجابي، كانت الشعارات المتنافرة. بين بكركي والضاحية “حوار طرشان”، ورسائل مباشرة وغير مباشرة، فهناك قطيعة تصل إلى حدّ الخصام والاستعانة بمؤتمرات خارجية لإعادة تحديد هوية لبنان، وأي لبنان نريد.

تحركات ومظاهرات وقطع طرقات لدرجة العصيان المدني، قابلها حملات تخوين وتشهير ونشر تُهم العمالة، فعاش لبنان فوضى لا تشبه الفوضى الخلاقة، لأنّ في الأخيرة إعادة تكوين للهوية من جديد، فيما أوصلت الفوضى الأولى إلى التشرذم والتباعد والإصطفافات داخل الشارع اللبناني الواحد. 

في برج بابل، هناك إله واحد بلبل الشعب بسبب عصيانه، أمّا في لبنان، فهناك دول لعبت دور الإله. في بابل، تقسموا، وتخاصموا، وتفرقوا، أما في لبنان فتصارعوا ورقصوا سويًا على أنقاض ما بات يعرف بلبنان. في بابل، أدرك الشعب أنه أخطأ بحق الإله فنال عقابه، أمّا في لبنان فلم يدرك أحد خطأه، بل كان رمي التهم والمسؤوليات عمّا وصلت إليه البلاد سيد الموقف، لذا دفع ويدفع اللبناني الثمن. 

دفع ثمن الإنهيار الحاصل، والإنعزالية الدولية، فأصبح ساحة تصفيات لمشاريع الإقليم والعالم، وصندوق بريد لإيصال الرسائل، بينما هو جائع ويجنح تحت خطر جائحة كورونا. لا أحد يريد تحمل المسؤولية، ولا أحد يريد الإعتراف بأخطائه، كما أنهم لا يريدون الإلتفاف على مصائبهم علّ المصيبة تجمع؛ إلّا في بابل لبنان، فالمصيبة تفرق لا بل تصل إلى حدّ القتال.

أخيرًا، قد تكون البلبلة حصلت في بابل للحظات وتفرقت بعدها المسكونة، لكن في لبنان كلّ يوم هناك بلبلة، لذا قد تطول حالة التبلبل والخوف لا سيما وإنّ ربط مصيرنا بالقضايا الإقليمية لم يزل قائمًا، ولهذا السبب قد يعيش اللبناني مخاضًا عسيرًا قبل الولادة. هذا الأمر، سيدفع بالكتّاب في المستقبل إلى الإضافة على قصصهم، قصّة بابل اللبنانية التي تحمل في طياتها حكاية شعب عاش مرارة بلبلة مسؤوليه.

 

Read Previous

هدر، فساد، وأكثر… لهذه الاسباب قدّم نائبا رئيس بلدية القاع استقالتيهما!

Read Next

دايلي مايل: الحكم على الشرطي قاتل جورج فلويد بالسجن 75 عاماً