
بقلم هادي بو شعيا
يعيش العالم حالاً من عدم اليقين وسط تراشقات روسيا وحلف شمال الأطلسي “الناتو” ما بين تهديدات بالتصعيد ومحاولات تهدئة، ممّا أفرز سيناريوهات متضاربة حول مصير العلاقات.
ولعلّ الإضطراب الجديد بين “الناتو” وروسيا يأتي عقب تحوّلات في علاقة الطرفين خلال الأشهر الماضية، إذ ارتفع منسوب التوتّر بينهما منذ أوائل العام الجاري، بسبب زيادة التكهنات والإشارات إلى إمكانية انضمام أوكرانيا إلى منظومة الحلف، وهو أمر رفضته روسيا واعتبرته بمثابة خطّ أحمر لا يُمكن تجاوزه. لكنّ الأمور ما لبثت أن عادت للهدوء خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، بعد إعلان الطرفين إمكانية التعاون الإيجابي داخل أفغانستان، لتحقيق نوع من الإستقرار الحامي للأمن القومي لكلّ من الجانبين.
يأتي ذلك إثر إعلان روسيا، أوّل من أمس، تعليق عمل بعثتها لدى حلف شمال الأطلسي “ناتو”، وإغلاق مكتب الإرتباط التابع للناتو في موسكو، بعد سحبه الأخير أوراق اعتماد ثمانية مندوبين روس.
وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مؤتمر صحافي إنه إثر بعض الإجراءات التي اتخذها حلف شمال الأطلسي، فإنّ الظروف الأساسية لعمل مشترك لم تعد متوفرة.
وأوضح أنّ هذه القرارات، التي تعدّ بنظر مراقبين “طلاقاً دبلوماسياً” بين موسكو والناتو، سيبدأ تطبيقها مطلع تشرين الثاني/نوفمبر المقبل أو ربّما يستغرق الأمر بضعة أيام أخرى، مضيفاً: “تمّ إنهاء أنشطة المكتب الإعلامي لحلف الناتو في موسكو، والذي تمّ إنشاؤه في سفارة بلجيكا”.
وتابع لافروف، “إذا كان لدى أعضاء الناتو أي مسائل عاجلة، فيمكنهم الإتصال بسفيرنا في بلجيكا الذي يقوم بتسيير العلاقات الثنائية بين روسيا ومملكة بلجيكا بشأن هذه القضايا”.
وللتذكير أنّ قرارات موسكو تأتي على خلفية ترحيل ثمانية من أعضاء بعثتها لدى الحلف الأطلسي في وقت سابق، بتهم التجسّس.
وأعلن الناتو تقليص عدد الأعضاء المعتمدين للبعثة الدبلوماسية الروسية لديه التي تأسّست قبل عقدين للمساعدة في تعزيز الحوار والتعاون في المجالات الأمنية المشتركة من عشرين إلى عشرة أشخاص، وطرد ثمانية روس بتهمة أنهم ضباط استخبارات متخفيين.
وأمام ذلك، يمكن الخلوص إلى أنّ ما يحدث ليس تجميداً، لكن بطبيعة الحال العلاقة تتوتر نتيجة أمرين إثنين:
– تصميم إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على دفع العلاقة بين الحلف وروسيا إلى حافة الهاوية.
– سلسلة العقوبات التي فرضتها الإدارة الأميركية إذ أثّرت بطبيعة الحال على توجّهات الدول الغربية ودول الحلف على العلاقات مع روسيا.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ هناك جملة من القضايا محلّ خلاف بين الجانبين بدءًا بـ”الملف النووي الإيراني” و”الملف السوري” و مرورًا بـ”تعريف الأمن الحقوقي” و”الصراع في القوقاز وشبه جزيرة القرم” ووصولاً إلى “الملف الأفغاني”.
إذاً هناك جملة من القضايا ترتبط بشكل وثيق بتعامل دول الحلف مع روسيا فضلاً عن رغبة موسكو بالقول إنها ليست دولة ضعيفة وتستطيع أن تناور في مجرى العلاقة مع الحلف بنسختيه الأميركية والأوروبية.
من جهة أخرى، لا بدّ من الإقرار أنّ الحلف يمرّ بمرحلة صعبة ويواجه مشاكل كثيرة حتى في إطار العلاقات الأميركية-الأوروبية، ذلك أنّ بايدن بات يكرّر ما قاله سلفه دونالد ترامب أنه على الأوروبيين أن يدفعوا ثمن الدفاع عنهم.
كما بات الحلف يشكّل عبئاً على السياسة الأميركية فيما تريد روسيا أن تصدّر أزمة مستمرّة داخله ويأتي ذلك بالتوازي مع التركيز الأميركي على الملف الأفغاني وآسيا والصين ما يعطي مساحة كبيرة للأطراف الأخرى المناورة.
وحول ما إذا كان ما يحدث ينعكس تأثيراً على الحلف، ينبغي القول إنّ “الناتو” يعاني خللاً بنيوياً في بنيته الرئيسية ومهامه وفق الإدارة الأميركية كذلك في كثير من الملفات المعقدة، ولا يجب أن نغفل مسألة في غاية الأهمّية أنّ روسيا تناور في محاولة لضرب الحلف من الداخل بمعنى أنها تحاول بناء تحالفات خارج نطاق الحلف.
في المحصلة، روسيا تصعّد على نحو كبير لكنها لن تستطيع الخروج عن نطاقات الحلف وإنما يمكن إدراج ما يحصل في سياق إبراق رسالة قوية تستهدف الضغط على أوروبا وأميركا على حدّ سواء. كما ستشهد الفترة المقبلة مناكفات عسكرية دون حدوث انسحابات من الإتفاقيات الأمنية، كما من المستبعد الذهاب باتجاه “السيناريو الصفري” عبر صدام مباشر كون موسكو لديها حساباتها الكبرى مع الأمن الأوروبي وهم ليسوا في وارد التخلّي عنه، ناهيك عن أنّ دول الحلف لن تستطيع أن تستمرّ في ضرب السياسات والمصالح الروسية في القوقاز والمنطقة الآسيوية.